بقلم الأكاديمية: وفاء داري
باحثة وكاتبة
الجزء الأول من هنا 👉
يبدو من بعيد إلى حد ما تشابه بين كتابات الشاعر نظير شمالي وكتابات الأديب أدونيس، والذي كان من المؤسسين، بل من أطلق شرارة الحداثة المعاصرة في الشعر العربي، صاحب الكتابات التي طالما عانقت الحرية والتغيير والإبداع، إن الثقافة تجديد للغة والمعرفة بالحداثة.
صاحب النص متعدد الأصوات والمستويات في آن واحد. وجدت هذا التشابه ولو من بعيد بين قصيدة " الفراغ" لأدونيس وقصيدة "هلوسات طائر البجع في دهاليز المدينة" للشاعر شمالي ، إذ تتميز تلك القصيدتان بأفق لا نهاية له وبفضاء مفتوح بعدة قراءات، تحمل عواطف جامحة، ولغة وارفة مع اختلاف وتقارب في الأسلوب والبصمة.
مقاربة قد تكون ولو من بعيد بين القصيدتين وجاءت- من وجهه نظري- على النحو التالي:
المقاربة الأولى:
حول الشعور في العزلة والوحدة والخذلان، رُغم أن هذا الشعور في جميع كتابات الشعراء في الوطن العربي ، ولكل منهم بصمته التي تختلف عن الآخر في التعبير والصور الشعرية ولكل منهما اسلوبه الخاص. إلا أننا نجد تقاربا بين القصيدتين في شحن الشعور ذاته للوحدة والحزن، وهذا ينطبق أيضًا على الواقع السياسي الموجود بكثرة في الشعر العربي..حتى عند كل الشعراء العرب.
مقطع مقتبس من قصيدة " الفراغ " لأدونيس:
حطام الفراغ على جبهتي
يمدّ المدى ويُهيلُ الترابا،
يُغَلغِلُ في خطواتي ظلامًا
ويمتدّ في ناظريّ سرابا.
مقطع مقتبس من قصيدة شاعرنا نظير شمالي"هلوسات طائر البجع في دهاليز المدينة"
"لا رد، لا همس، لا صدى يؤنس وحشتنا ".
وكما ورد ايضًا مقطع آخر من القصيدة:
"وحيد منفاي "..
كما ورد أيضًا:
"لا يطرق باب منفاي أحد".
المقاربة الثانية:
حول دلالات وطنية وسياسية ، دلالة لأصحاب المناصب والمؤثرين في المشهد السياسي والوطني وفي العالم أجمع.
كما ورد في القصيدة : " هلوسات طائر البجع في دهاليز المدينة".
" متى استعبدتم المستضعفين في الأرض -يقول المستضعفون - متى صارت أرواحهم بايديكم رهائن!؟!؟"
كما ورد:
" سادة الحرب ، منظروها، مدمنيها، لاعبوها الماهرون
أطلقوا رؤوس الثعالب من منابر الإعلام".
وفي مقطع مقتبس من قصيدة "الفراغ" لأدونيس:
و في أرضنا شبحٌ يتمطَّى
سرابًا ورملا
ويملأ أعماقنا يباسًا.
ويملؤها دُكْنةً محْلا.
في أرضنا مَلَلٌ يُبدع المقابرْ
وينثرها , عبْرَ أيامنا , أنينًا و عبْرَ خُطانا , مجازرْ.
هنا الحقد ركّز راياتِه
وشرّعها قمة وطريقا
يحطّ على توقنا صقيعاً
ويضرم في حّنا حريقا .
وللحقد في شعبنا
بلادٌ و شعبُ
له ساحة واصطخابٌ وحربُ
يوسخ أجواءنا
ويحفر أبناؤنا
كهوف ضلال ٍ وقبح
ويصفح في وجههم كلَّ نجم ٍ
ويخنق في جفنهم كل صبح ِ.
أثارت هذه القصيدة في مشاعر الحنين للماضي ، فكل منا لديه ماضٍ، ذكرى، حنين ،فقدان. وعندما نقرأ تلك القصيدة تثير فينا مشاعر دفينة، وتنبش ما ظننا أننا قد دفناه يومًا، وما أن تأتي رياح ذكرى حتى تنثر التراب عن الحنين للماضي، لربما عن شوق وحنين لأشخاص فارقناهم وأصبحوا تحت الثرى.
الرسالة:
الرسالة التي يريد الشاعر إيصالها من خلال هذه القصيدة لربما هي عدة رسائل وليست رسالة واحدة . ربما رسالتان محوريتان وهي عامة وفي الوقت ذاته تضم الشاعر ضمن العامه، بكلمات أخرى (الانا والآخر) وهذا ما تجلت في كثير من نصوص الشاعر الأخرى في اشعاره كثير من نصوص تربط بين الشاعر والناس.
أما الرسالتان، فهما:
رسالة الغربة والاغتراب في هذا العصر
رسالة أخرى : قضية المتنفذين في مصائر الناس البسطاء والفقراء، المستضعفين و مسحوقي العالم والمتحكمين في أرزاق الخلق وثرواتهم ومصائرهم بمظاهر خداعة، والمضطهدين المستغلين المعذبين في الأرض، وفي مقابلهم الأشخاص المنتقدون القاهرون الساديون المتلذذون بتعذيب المستضعفين ،الذين يعيشون في أفضل جودة الحياة ورفاهيتها على حساب المقهورين والمستضعفين، وهي معضلة ليست حديثة، بل مشكلة قديمة - جديدة تتعاقب.
قصيدة
هلوسات طائر ٱلبجع في دهاليز ٱلمدينة (معزوفات منفردة)
شعر: نظير شمالي
(السُّوناتا الأُولى)
مَيِّتًا سَقَطَ ٱلقَمَرْ
كَعُصْفُورٍ ذَبيحٍ مُضَرَّجٍ بِحُمْرَتِهِ، دِماؤُهُ حِنَّاهْ
هامِدًا تَدَلَّى كَٱلحَجَرْ
وَخَبَتْ أَحْداقُ ٱلمَدينةِ في لَيْلِها ٱلمَجْبولِ في رَحْمِ ٱلرَّمادْ
لَوَّثَ ٱلشَّوارعَ قَيْءُ ٱلسُّكارَى ٱلمُتَرَنِّحينْ
بَعْدَ أَنْ غادَروا خَمّارَاتِها ٱلنَّاعِسةْ
- "مَنْ هُناكْ؟!!
مَنِ ٱلهائمُ في لَيْلِ ٱلرَّمادِ أَيُّها ٱلغريبُ ٱلمُرْتَحِلْ؟!!
يا غَريبًا مُجَنَّحًا بِأَشْرِعَةِ ٱلشَّوْقِ وٱلتَّرْحالِ ٱلبعيدْ؟!!
يا باحِثًا عَنْ جَذْوَةٍ لِلرُّوحِ، يا شَريدَ ٱلرُّوحِ مِنْ أَلْفِ عامْ؟!!"
لا رَدَّ، لا هَمْسَ، لا صَدًى يُؤْنِسُ وَحْشَتَنا،
لااااا أَحَدْ!!
لاااااا أَحَدْ!!
(السُّوناتا الثَّانية)
في ٱلمَكانِ عَنْكِ أَبْحَثُ، في ٱللَّامكانِ، في ٱلبَيْنَ بَيْنْ
تَصْفِرُ ٱلقُطُراتُ صَبَاحَ مَساءْ،
تَدِبُّ دَوَاليبُها ٱلسُّودُ، تَزْحَفُ.. يَمْتَدُّ ٱلصَّريرْ
ساهِرًا أَبْقَى وَحيدَ مَنْفايْ
لِلمَرَّةِ ٱلمِائَتَيْنِ بَعْدَ ٱلأَلْفِ أُقَلِّبُ ٱلرَّسائِلَ ٱلمُعَتَّقَةْ
بِصَمْتٍ سَرْمَدِيٍّ تُقَلِّبُني رَسائِلي، وَتَقْرَأُني
أُدَخِّنُّ ما تَبَقَّى مِنْ لَفائِفِ تَبْغيْ،
ذاهِلًا أُشْعِلُها فَتُشْعِلُني، أُحْرِقُها فَتُحْرِقُني
مَتَعَجِّلًا صَباحٌ يُغادِرُنا، وَيَدْهَمُنا مَساءْ
مَساءٌ، يا صَديقيْ، شاحِبُ ٱلْوَجْنَتَيْنِ حَزينْ
قِطارٌ يَروحُ، قِطارٌ يَجِيْءْ..
هَرِمَ ٱلْخَطْوُ مِنِّي، ياااااا صَديقيْ، هَرِمَ ٱلمكانُ، ٱللَّامكانْ
هَرِمَتْ أَحْلاميْ ٱلكبيرةُ وَٱلصَّغيرةْ
قَدِيمُها وَجَديدُها، تَبَدَّدَ ٱلعُمْرُ،تَ..بَ..دَّ..دْ..
ولا يَطْرُقُ بابَ مَنْفايَ أَحَدْ!!
فَأَيْنَكِ، يا شُعلةً تَأَلَّقَ وَهْجُها ذاتَ سَحَرْ؟!!
كَشِهابٍ ثاقِبٍ وَمَضَتْ، وَمَضَتْ إلى أُفْقٍ مِنْغِيابْ
وفي أُفْقِ ٱلرَّمادِ خَبَتْ، وَٱخْتَبَتْ في لَحْظَتَيْنْ
ياااااا أَنْتِ، يا مَنْ غَيَّبَتْها بَرَازِخُ ٱلغِيابْ.
(السُّوناتا الثّالثة)
أَشْعِلي سِرَاجَ ٱلقَلْبِ ٱلْمُعَنَّى، فَٱللَّيْلُ داجْ
وَشُعْلَةُ ٱلرُّوْحِ أَطْفَأَتْها ٱلرِّيْيْيْحُ، وٱلقَلْبُ شاخْ
أَشْعِلِي رَمَادَ قَلْبيَ ٱلْمُطْفَأْ،
وَٱنْفُخِي- ما شِئْتِ- رِيْحًا صَرْصَرًا في رَمَادْ
(أَتَشُبُّ مِنْ كَهْفِ ٱلْجَليدِ نارٌ كَفَّنَتْها جِبالٌ راسِياتٌ مِنْ رَمادْ؟!!)
أَشْعِلِي سِراجَ ٱلرُّوْحِ - يَقُولُ ٱلمُغَنِّي-أشْعِليقَلْبَ ٱلْحَجَرْ!!
(السّوناتا الرّابعة)
غَفَتِ ٱلمَسَارِحُ ٱللَّيْلِيَّةُ، ٱلباراتُ، ٱلمَراقِصُ ٱلصَّاخِبَةُ، ٱلموائِدُ ٱلْخَضْراءْ
سادَةَ ٱلْحَرْبِ، مُنَظِّروها، مُدْمِنُوها، لاعِبُوها ٱلماهِرونْ
أَطَلُّوا بِرُؤُوْسِ ٱلثَّعالِبِ مِنْ مَنَابِرِ ٱلإِعْلامْ
وَمِنْ أَشْداقِهِمْ بَدَتْ أَنْيابُهُمْ كَمَا ٱلبَلُّورُ تُشِعُّ، تُضِيْءْ،
صَفَّقَ ٱلنَّاسُ، هَلَّلَ ٱلحَمْقَى لِأَنْيابٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدْ
("غَدًا تَفْتَرِسُ ٱلمُصَفِّقِيْنَ ٱلْمُهَلِّلِيْنَ أَنْيابٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدْ!!"
- يقولُ ٱلمُغَنِّي)
تَأَنَّقُوا، تَأَفَّفُوا كثيرًا، فَهُمْ أَهْلُ ٱلتَّأَنُّقِ وٱلتَّأَفُّفْ،
وَهُمْ أَهْلُ ٱلمَشُوْرَةِ، أَهْلُ ٱلْعَقْدِ وَٱلْحَلّْ
هُمُ ٱلمُتأَلِّهونَ ٱلسَّادةُ ٱلأَسْيادُ أَتْباعُ "سادْ"،
أَتْباعُهُ ٱلمُتَلَذِّذونَ بِأَنَّاتِ ٱلْبَشَرْ
بِأَقْنِعَةِ ٱلْمُشَيِّعِينَ يَلُوكونَ أَكْبادَ قَتْلاهُمْ قَبْلَ تَقْدِيمِ ٱلْعَزاءْ
(مَنْ قالَ نَيْرونُ ماتَ، مَنْ قالْ؟!!
مَنْ قالَ نَيرونُ ماتْ؟!!!)
لا يَخافُونَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِمْ، لا يَخافُونَ مِنْ أَحَدْ!!
(مَتَى ٱسْتَعْبَدْتُمُ ٱلمُسْتَضْعَفِينَ في ٱلأَرْضِ- يَقولُ ٱلمغنّي-
مَتَى صارَتْ أَرْواحُهُمْ بِأَيْدِيْكُمْ رَهَائِنْ؟!!)
وَبِعَبْقَرِيَّةِ ٱلحَاوِيْ تَوَارَوْا فَجْأَةً خَلْفَ عِيْدانِ ثِقابْ
وَأَرْخَوْا إِصْبَعًا ثالِثَةً- لِساعَةٍ أَوْ أَكثَرَ- في لُعْبَةِ ٱلضَّغْطِ على ٱلزِّنَادْ
ضَحِكُوا، أَكَلُوا، شَرِبُوا، سَكِرُوا، سَخِرُوا، بَصَقُوا
شَتَمُوا، عَرْبَدُوا، قَفَزُوا، قَهْقَهُوا، بالُوا، صرَخُوا
ثُمَّ حَلُّوا تِكَكَ ٱلسَّراويلِ، فٱنْزَلَقَتْ فَوقَ ٱلرُّخَامْ
(تَقُولُ ٱلأَنْباءُ: هُمْ لا يَذْكُرونَ شَيْئًا عَنْ ضَحاياهُمْ
فٱلحَواسيبُ وَحْدَها تَحْفَظُ ٱلأَرْقامَ وَٱلأَوْصافْ)
بِٱلمِسْكِ وٱلصَّابونِ عَقَّمُوا أَكُفًّا مُلَوَّثَةً بِدِماءْ
("وَمَنْ يُعَقِّمُ أَحْقادَ ٱلقُلوبِ وَأَدْرانَها؟!!" يقولُ ٱلمغنّي)
تَجَرَّعُوا عَسَلًا مُصَفَّى،
وَٱحْتَسَوْا مِنْ زَنْجَبِيلِ ٱلْهِنْدِ مَخْزُونَ جِرارٍ مُتْرَعَةْ،
تَعاطَوْا أَفْيُونًا مُهَرَّبًا/ "حَلالًا" فاخِرًا، بَعْدَ أَنْ خَلَعُوا جُلودَ ٱلتَّماسيحْ
(هُمُ ٱلمُهَرِّجُونَ يَذْبَحُونَ ٱلضَّحايا وَيَبْكُونْ!!
يَتَشَدَّقُونَ بِٱلرِّثاءْ
فِيهِ يُنْشِدونَ ٱلمُعَلَّقاتِ ٱلطِّوالْ!!)
طَرَحُوا جُلُودَهُمْ جانِبًا لِساعَةٍ، وَلَرُبَّما لِسَاعَتَيْنْ
في خَزائِنَ أَحْكَمُوا إِرْتَاجَها جَيِّدًا،
ثُمَّ ٱرْتَدَوْا – عَلى عُجالَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ- أَقْنِعَةَ ٱلعاشِقِيْنْ
بِسَعادَةٍ لا تُوْصَفُ فاقَتْ سَعَادَةَ طِفْلٍ يَتيمٍ بِسلالٍ مِنْ هَداياهْ
وَبِخِفَّةِ ٱلسَّاحِرِ ٱخْتَلَسُوْا مِنْ أَغْمادِهِمْ بَعْضَ وَرْدٍ وَياسَمِيْنْ
لِسَاعَةٍ وَرْدِيَّةٍ زرقاءَ حَمْراءَ شارِدَةٍ مِنْ أَلْفِ لَيلةْ..
تَقاطَرَ ٱلمُهَرِّجونَ، تقاطَرُوا، تَقاطَرُوا
هَرْوَلَ ٱلمُشَعْوِذُونَ ٱلمُتَيَّمونَ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ وَحَدْبْ
مِنْ قِحَابٍ وَقَوَّادِينَ عُشَّاقِ ٱللّيلَةِ ٱلواحِدَةْ
بَعْدَ ٱنتِهائِهِمْ مِنَ ٱقْتِناصِ بَرْقِيّاتِ عِشْقٍ وَتَهْيَامْ
مِنْ بُطونِ ٱلكُتُبِ ٱلقديمةِ في مُدَوَّناتِ ٱلعِشْقِ وَٱلعُشَّاقْ
صَرَفُوا بعضَ ٱلدَّقائِقِ في تَلْوينِ زُخْرُفِها ٱلأَنيقْ
ثُمَّ قَامُوا بِدَسِّها – بِنُعومَةٍ فائِقَةٍ- بَيْنَ نُهُودِ ٱلعَشِيقاتْ
مُثْقَلَةً بِعِطْرٍ فَرَنْسِيٍّ ثَمينْ
بَعْدَ أَنْ أَهْدَوْا مُومِسَاتِهِمْ لِلتَّوِّ حُمْرَ ٱلوُرودْ
وفي سَاعَةٍ زَرقاءَ حَمراءَ وَرْدِيَّةْ
شَهَقُوا مِرارًا وَتَكْرارًا، تَصَبَّبُوا عَرَقًا وَحَسَاءْ،
في كلِّ زاوِيَةٍ وٱتِّجاهٍ تَلَوَّوْا فَوقَ أَسِرَّةٍ مُخْمَلِيَّةْ،
مارَسُوا "لُعْبَةَ ٱلبِغَاءِ" فَوقَ ٱلأَرائِكِ ٱلمُفَضَّضَةْ،
بِكُلِّ طُقوسِها كامِلَةً مارَسُوها دُونَ نُقْصانْ
وَبَعْدَ دقيقةٍ واحِدَةٍ على ٱنْقِضاءِ مَشْهَدِ ٱلعُرْيِ ٱلأَخيرْ
تَلَقَّفَتْ وَرْدَهُمْ تَوابيتُ ٱلقُمَامَةْ!!
هُناكَ حَيْثُ يُهَرْوِلُ ٱلمُتَسَوِّلونَ ٱلجائِعُونَ ٱلعُراةْ
زَحْفًا أَتَوْا لِٱلتِقاطِ فُتَاتِ يَوْمِهِمْ مِنْ تَوابيتِ مَوتِهِمْ
قَدْ يَرُدُّ عَنْ أَحشائِهِمْ عَضَّةَ جُوعٍ كاوِيَةْ
("فَما أَبْعَدَ ٱلورْدَ عَنْ أَحْلامِهِمْ!!" – يقولُ ٱلمغنِّي)
قَبْلَ أَنْ يَتَوَسَّدُوا عَراءَ ٱلأَرْصِفَةْ
وَقَدْ يَبْتَسِمُ ٱلحَظُّ لَهُمْ مَرَّةً، أَوْ نِصْفَ مَرَّةْ
لِيَلْتَحِفُوا سَقْفَ زِنْكٍ "مُفَضَّضٍ" بٱلصَّدَأْ
وَيَفْتَرِشُوا فِراشًا "مُخْمَلِيًّا وَثيرًا" مِنْ غَيْمِ أَحْلامْ
وفي صَحْوِهِمْ وَجَدُوهُ مِنْ وَرَقٍ مُقَوَّى،
وَرَقٍ لا يَقْوَى على سَدِّ بابٍ واحِدٍ مِنْ سُعَارِ ٱلمَطَرْ..
كَأَنَّهُمْ كائِناتٌ غريبةٌ هَبَطَتْ مِنْ عَوالِمَ أُخْرَى
نُسَخٌ أَثيرِيَّةٌ هُمْ، ظِلالُ أَشْباحٍ تَرُوحُ، تَجِيْءْ
بُصَاقٌ مُقَزِّزٌ لا يُثيرُ ٱلْتِفاتَ عابِرْ
كُتَلٌ مَسْحُوقَةٌ بِلا وَزْنٍ، على قارِعَةِ ٱلطَّريقِ بِلا أَثَرْ
بِلا ٱسْتِئْذانٍ، وفي كلِّ حِيْنٍ يَدُوسُها ٱلعابِرونْ،
يَرْكُلونَها مَتَى شاؤُوا، وَكَيْفَما شاءوا
فَهُمْ أَصْفارٌ مُحَنَّطَةٌ تَجُوعُ وَتَعْرَى، تَعْرَى تَجُوعْ
مَوْتًا تموتُ كلَّ يَومٍ، وَلَا يَبْكِيها أَحَدْ!!
وَهُمْ فُقَّاعَةٌ هُلامِيَّةٌ بِلا لَونٍ
إلى مَدارِجِ ٱلدُّنيا غريبةً تَأْتِيْ، غريبةً تُغادِرُها
هُمُ ٱلمُسْتَضْعَفُونَ في ٱلأَرْضِ يَموتونَ، وَلا يَموتونْ
هُمُ ٱلمَوتَى في "ٱلحَيَاةِ"، و"ٱلأَحْياءُ" في ٱلمَوْتِ، أَوْ قُلْ بَيْنَ بَيْنْ
كلَّ يَومٍ يَذوقونَ حَنْظَلَ ٱلمَوتْ
وَقَدْ حَفِظُوا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ تَقاطيعَ وَجْهِهِ ٱلمُرْعِبَةْ!!
لِمَوتَى "ٱلحَياةِ" يُغَنِّي ٱلمُغَنِّي، "لِأَحياءٍ" يَتَسَوَّلُونَ نَبْضَ ٱلحَياةْ:
أَيُّها ٱلمَوتُ ٱلقريبُ ٱلبعيدْ
أَيُّها ٱلمُتَجَهِّمُ ٱلْمُرُّ ٱلمُرْعِبُ ٱلقاهِرُ ٱلمُخَلِّصُ ٱلعَبوسْ،
أَيُّها ٱلرّائِعُ ٱرْأَفْ بِنا،
أَيُّها ٱلمَوتُ لا تُذِقْنا مَشْهَدَكَ ٱلأَخيرْ
في ٱلمَشْهَدِ ٱلأَخيْرِ لا تَقْتَرِبْ
أَيُّها ٱلمَوتُ، لا تُطِلِ ٱلغِيَابْ!!"
(السُّوناتا الخامسة)
مُتْخَمًا قَدْ تَمَطَّى ٱلمَوتُ في دَهالِيزِ ٱلمدينةْ
وٱلقَلْبُ كَفَّنَهُ بَرْدُ ٱلشِّتاءْ
جُثَثًا جَمَّدَنا ٱلصَّقيعُ فَوقَ ٱلأَرْصِفَةْ
مُنْذُ أَعْوامٍ تَسَاقَطْنا- كَمَا أَذْكُرُ- مَيِّتِيْنْ
ما عادَ في ٱلقَلْبِ رُكْنٌ لِلْفَرَحْ
ما عادَ في ٱلحَلْقِ طَعْمٌ لِلْغِناءْ
زَمِّليني.. رَدِيفُ ٱلثَّلْجِ أَنا، وٱلحُزْنُ باتَ ليْ صَديقًا لا يُفارِقُني،
باتَ مَأْوايَ وَظِلِّيْ، صارَ تَرْحاليْ وَخِلِّيْ
مَلَلْتُ غُرْبَتي وَشِتائيْ.. مَلَلْتُ مَلَلْتْ
بينَ أَحْضانِ ٱلرّوابي أَسْكِنينيْ
كوخًا بِكُلِّ ٱلشَّوْقِ يَهْفُو الى زَغاريدِ ٱلمَطَرْ
أَسْكِنيني وٱسْكُنيني بينَ أَحْضانِ ٱلمَراعيْ
أَسْمِعيني عَزيفَ ٱلرِّيْيْيْحِ فيها، وٱرتعاشاتِ وُرَيقاتِ ٱلشَّجَرْ
الى هُناكَ خُذيني، خُذيني الى هناكْ
كَأَسْرابِ ٱلطُّيورِ دَعِيْنا نُهاجِرْ
نَحُطُّ ٱلرِّحَالَ بِأَرْضٍ لَمْ يُدَنِّسْها أَحَدْ،
لَمْ يَطَأْها بَشَرْ
نَرْتَويْ فَرَحًا، وَلَهًا، يُسْكِرُنا شَدْوُ ٱلجَداوِلْ
كَطِفْلَيْنِ نَعْدُو، نُسابِقُ ٱلشَّحاريرَ قُبَيْلَ ٱنْطِلاقِ ٱلسَّحَرْ
خُذيني هناكَ لِكُوخٍ بَعيدٍ سَعيدْ
يُناجِي ٱلفَجْرَ فيهِ عَزْفُ ٱلقَصَبْ.
(السّوناتا السَّادسة)
في مِهْرَجانِ ٱلعَصْرِ لِلْعِشْقِ عيدٌ، أَيُّ عيدْ!!
وفي سُرَادِقَاتِ ٱلعِشْقِ ٱزْدِحامٌ وٱخْتِصامْ
_ أَبْعِدُوا عَنْ خُدودِ ٱلوَرْدِ شِفَاهَ مِلْحٍ وَصَديدْ،
أَبْعِدُوا ٱللَّحْمَ ٱلمُقَدَّدَ، وٱخْلَعُوا كلَّ ٱلأَقْنِعَةْ
فَقَدْ صَدِئَتْ قَواميسُ ٱلعِشْقِ في عَصْرِنا "ٱلمَيْمُونْ"
عِشْقُنا- يَقولُ ٱلمُغَنّي- مِنْ دِنَانِ ٱلعِشْقِ يَنْضَحْ
مِنْ غَياهِبِ ٱلأَرْضِ نَبْعٌ جَبَلِيٌّ هادِرٌ كَٱلسَّيْلِ عارِمْ
لا وَليدَ ٱشْتِهاءٍ عابِرٍ وَسِفَاحْ
- يا غَريبَ ٱلرُّوحِ، أَدْهَشَتْنا ٱلمُراهَنَاتْ
فَوْقَ ٱلموائِدِ ٱلخُضْرِ نُعَلِّقُ ٱلقَلْبَ ٱلذَّبيحَ لِلْقَنْصِ ساعَةْ
مُتْعَةً لِلْمُشْتَهِينْ
وبَعْدَ ٱحْتِساءِ نَخْبِ ٱلنَّصْرِ تَنْتَهي مَزاداتُ ٱلرِّهانْ
وَبَعْدَ ٱنْقِضاءِ ٱلكَرْنَڤالِ فَلْيَهْنَأْ بِغَنيمَتِهِ ٱلمِغْوارُ ٱلبَطَلْ
فَكُنِ ٱلفائِزَ ٱلبَطَلْ!
- كَيْفَ تَغتالُ غِيلانُكُمْ ملاكيْ، كَيفَ تَغْتالُ مِنِّيْ ٱلمَلاكْ؟!!
(بِشَياطينِهِمْ فَلْيَفْرَحُوا، فَليْ مَلاكيْ، إِذا ماتَ أَموتْ
فَمَا قَتَلُوهُ يَقينًا، وَلكِنْ خَسِئَ ٱلمُراهِنُ وٱلرِّهانْ)
لُكُمْ غِيلانُكُمْ لِسَفْكِ ٱلدِّمَا تَدْفَعُكُمْ، لِٱشْتِهاءِ ٱلحَرائِقْ
وَليْ مَلاكُ ٱلطُّهْرِ لا يُبارِحُني،
(نَيْرونُ مَيِّتٌ لا مَحَالةَ، نَيْرونُ مَيْتْ،
وَأَعْوانُهُ مَيِّتونَ في ٱلمَشْهَدِ ٱلأَخيرْ)
مَلَكُوتَ ٱلعِشْقِ ٱعْتَلَى، في ٱلقَلْبِ يَبْقَى، لا يَغيبْ
ليْ ملاكيْ.. ليْ مَلاكٌ لا يَموتْ!!
ليْ مَلاكٌ.. لا اااااا يَموتْ!!
للإطلاع على الجزء الأول من هنا 👉👉
تمت