كتب/ عبدالحميد نافع
تتمتع الثقافة العربية مذ خرجت للنور على لسان يعرب بن قحطان أو إسماعيل عليه السلام ـ على أشهر الأقوال ـ بالأنفة والإباء فكأن العروبة قرينة الفخر والاعتداد بالنفس، فلو سبرت أغوار هذه اللغة العالية علمت حال أربابها من الفخر والإباء، وأنهم ليسوا كغيرهم من باقي الثقافات التي تبرر الضعة والمهانة لأغراض مادية دنيئة.
كان أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفي الكندي الشهير بأبي الطيب المتنبي خير من يمثل هذه الثقافة، فمذ كان صبيا يافعا في مقتبل شبيبته وهو يفخر بنفسه ويعتد بعروبته وليس ذلك الفخر العادي البارد بل فخر من يجد في نفسه وقبيلته وأصله المكارم والفضائل التي لم يبلغها أحد، فهو لا يرى ذرة فضل لعربيٍ على أعجمي، بل يرى الثقافة العربية أفضل من أي ثقافة خلقها الله مذ خلق الله آدم عليه السلام. ويرى نفسه خير ممثل لهذه الثقافة، فهو يسير على نهج العرب سير القديس الذي يرى في العروبة مبتغاه، والنهج الذي يجب أن يبتغيه الناس والكعبة التي يطوف حولها كل من رام المعالي.
فقد وصف المتنبي قومه بقوله:
وإنا لمن قوم كأن نفوسنا
بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما
ولا تكاد تجد مثل هذا البيت عند شاعر أو قبيلة أو ثقافة أخرى.
وقد كتب في شبيته قصيدة من أوائل القصائد، قصيدة بلغت الغاية في الفخر والاعتداد بالنفس
ففي قصيدته التي مطلعها:
كم قتيل كما قتلت شهيد
ببياض الطلا وورد الخدود
يقول أبي الطيب:
لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي
وبنفسي فخرتُ لا بجدودي
وبهم فخرُ كلُّ من نطق الضاد
وعوذُ الجاني وغوثُ الطريد
إن أكن معجبًا فعجبُ عجيبٍ
لم يجد فوقَ نفسِهِ من مزيدِ
أنا تربُ الندى وربُّ القوافي
وسمامُ العدا وغيظِ الحسودِ
أنا في أمةٍ تداركها اللهُ
غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ
والمتأملُ في هذا الكلام لا يتخيل أنه يصدر من شاب لم يتجاوز العقدين، فهو يصور نفسه أنه لا شبيه له على وجه البسيطة، وأنه قومه لا مثيل لهم في العرب أو العجم؛ فقومه فخر كل من نطق الضاد وهو فخر قومه فقومه يفخر الناس بهم وقومه يفخرون به، فهو فخر العرب جميعا.
ويقول أن سبب إعجابه بنفسه أنه لم يجد لنفسه شبيه ولا مثيل ولا قرين ولا ند، فعيناه لم تقع على شخص يثير إعجابها كشخصه، فهو قرين الكرم وربُّ القلم وسمام العدا وغيظ الحسود.
من هنا يتبين لك جانبٌ هام من حياة العربي، فالعرب ذو ثقافةٍ عجيبة لا مثيل لها في الملل والنحل، فقد اتسم العرب بالشجاعة والإقدام والكرم والمروءة وشنعوا الخيانة والجبن وقلة المروءة والبخل. وما من حضارة حرمت على نفسها استباحه غيرها كالعرب، فالعرب مذ جاهليتهم وهم يشنعون الأخلاق الذميمة على ما كان فيهم من مساوئ كغيرهم من الأمم، بيد أنهم تميزوا عن غيرهم بالكثير من المروءات والكرامات.
فقد حرم كثير من الحرائر في الجاهلية على نفسهم الزنا كما قالت هند بنت عتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أو تزني الحرة)!
فكثير منهم استبشع الزنا والسفاح قبل قدوم الإسلام، فتأمل هذه الأخلاق العالية.
لذا جاء الإسلام متمما لهذه الأخلاق فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق)
وسار المتنبي على نهج أسلافه سطر مناقبهم وفضائلهم وافتخر بكل هذه المكارم، فهو ابن هذه الحضارة العظيمة التي تدفع المرء دفعا على الفخر بها. وظل كثير من الأجيال المتعاقبة على هذا النهج مستمسكون بأخلاق أسلافهم، وانخلع منها آخرون ... وتمردوا على أجدادهم ووصفوهم بالجمود والجهالة، وقلة العقلة، والواصف أحقُ بذلك الوصف من الموصوف.