كتب: عبدالحميد نافع
تعدُّ الخنساء من النساء المعدودات في تاريخ العرب لمآثرها الكبيرة وآثارها البديعة وقصصها الفريدة، ولكن لماذا اشتهر رثائها لأخيها صخر، وما الذي دفعها لتكتب كل هذه المرثيات عن أخيها حتى أنه ليخيل للقارئ أن أخيها صخر سيد سادات العرب.
وإذا أردنا تحليل السبب الذي جعل الخنساء تكتب كل هذا الشعر في أخيها.. سنجد السبب واضحًا جليًّا في شعرِّها فما كان للخنساء أن ترثي أخيها وهو مسلوب من المكارم عارٍ من الفضائل، لكن ثمة شئ دفعها دفعا على التغزل بشمائل صخر وفضائله، والطريق لمعرفة هذه الشمائل هو ما سطرته الخنساء في قصائدها، وما أعربت عنه في شعرها وكلامها من مناقب وفضائل.
فلنرى ما قالته الخنساء وما أعربت به عن أخيها ومكارمه، فقد رثت الخنساء صخرا بيبتين هما من عيون الرثاء لتعبر بها عن حالتها بعد فقد صخر :
وقائلةٍ والنعشُ قد فات خطوها
لتدركه يا لهف نفسي على صخرِ
ألا ثَكَلَت أمُّ الذين مشوا به
إلى القبرِ ماذا يحملون إلى القبرِ
فماذا الذي دفعها لقول هذا ؟ حتى إنها لتدعوا بالهلاك على من حمل النعش إلى القبر، وتقرعهم تقريعًا شديدا فتقول لهم ثكلتكم أمهاتكم، ألا تعلمون ماذا تحملون في هذا النعش، لقد حملتم معه الجود والندى والكرم.
نعم السر في إكباره وسؤدده في عين الخنساء في جوده ومروءته، فجودُ أخيها صخر تخطى كل الحدود والأعراف وكل القوانين والنواميس.. فهي تصفه بأوصاف تجعله مضربا للمثل في الكرم والجود والسماحة والمروءة.
وقد عللت سبب قولها في البيتين السابقين بقولها :
وماذا يواري القبرُ تحت ترابِه
من الخيرِ يا بؤس الحوادث والدهر
ومِ الحزمِ في العَزَّاء والجودِ والندى
غداةَ يُرى حِلفَ اليسارةِ والعُسرِ
وقد استهلت هذه القصيدة بشجن وحزن عميق وجمعت ببن الفخر بأخيها والألم الشديد على فقده فقالت :
أعينيَّ هلا تبكيان على صخرِ
بدمعٍ حثيثٍ لا بكئٍ ولا نَزرِ
وتستفرغان الدمعِ أو تذريانِهِ
على ذي الندى والجودِ والسيدِ الغمر
هنا تعليل واضح، مكارم صخر أرغمت عيني الخنساء على البكاء الشديد الذي ترجو ألا ينقطع ما دام فيها نفس، فكيف للثرى أن يبتلع هذا السيد الشريف الكريم، كيف تحمل المشيعون إطفاء القمر وإخفائه وإخماله في غياهب الظلام وفي عتمة القبر !
وتقول الخنساء في قصيدة أخرى تذكر فيها شمائل أخيها ووجدها بفراقه :
يومًا بأوجد مني يوم فارقني
صخرٌ وللدهر إحلاءٌ وإمرارُ
وإنَّ صخرا لوالينا وسيدنا
وإن صخرا إذا نشتو لنحارُ
وإن صخرا لمقدامٌ إذا ركبوا
وإن صخرا إذا جاعوا لعقارُ
وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علمٌ في رأسه نار
جلدٌ جميلُ المحيا كاملٌ ورعُ
وللحروبِ غداة الروعِ مسعارُ
فحق لمن كانت السيادة ديدنه والكرم والشرف طبعه وسجيته أن يوصف بهذه الأوصاف وأن يحزن عليه هذا الحزن.
ومن هنا يتبين جانب هامٌ، ما ذاك الشئ الذي يرفع أقوام ويخفض آخرين ؟ ما الذي يسود الناس، ما الذي يجعل السيدا سيدا والوضيع وضيع ؟
في الحقيقة.. القصة السالفة تجيب عن هذا والعلاقة الوطيدة بين الخنساء وأخيها تفسر لك ما الذي جعل صخرا صخرا مع كثرة المفقودين وكثرة الثكالى.
ومن هنا تعرف معنى الحكمة البليغة التي قالها أحد العرب " قيمةُ كل امرئٍ ما كان يحسنُهُ ".
فالسيادةُ قرينةُ البذل، والذي يجعل السيد سيدا ويرفعه على رؤوس الخلائق هو إقدامه وجده وكرمه وعطائه، فلا ينالها أحد رغبةً إلا بقدر عطائه، وقد ينالها رهبة بالسيف لكن نائلها وقتئذ أحمق مغبون بمجرد أن يزول سلطانه يمرغُ الناسُ أنفه بالتراب، وينزلونه منازل الجيف، فيمسحون وجهه بنعالهم، آسفون لنعالهم من النتن الذي أصابها.
فالسخاءُ سؤددٌ والإحسانٌ سؤددٌ، والترفع على الناس والخيلاء سفاهةٌ تودي بالمرء في أسفل السافلين، وتجعله مضربا للمثل في الدناءة والوضاعة.
قال الإمامُ الشافعي:
إذا كثرت عيوبك في البرايا
وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب
يغطيه كما قيل السخاء
وقال شيخ الشعراء وزعيمهم وكبيرهم الذي علمهم السحر :
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلهم
الجودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قتالُ
فثمةَ علاقةٌ وطيدةٌ بين بذل النفس ووضعك بين السماكين، وثمةَ علاقةٌ أكيدةٌ بين قبض اليد ووضعك مع أراذل المخلوقين.